( في نبوّة إدريس ونوح عليهما السّلام )
58 ـ أخبرنا السيد أبو الصّمصام ذو الفقار بن أحمد بن معبد (1) الحسيني ، حدّثنا الشّيخ أبو جعفر الطّوسي ، حدّثنا الشيخ المفيد أبو عبدالله ، حدّثنا الشّيخ أبو جعفر بن بابويه ، حدثنا أبي ، حدثنا سعد بن عبدالله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن ابراهيم بن أبي البلاّد ، عن أبيه ، عن أبي جعفر صلوات الله عليه قال : كان نبوّة إدريس عليه السلام أنه كان في زمنه ملك جبّار وأنّه ركب ذات يوم في بعض نزهة ، فمرّ بأرض خضرة نضرة لعبد مؤمن فأعجبته ، فسأل وزراءه لمن هذه ؟ فقالوا : لفلان ، فدعا به ، فقال له : أمتعني (2) بأرضك هذه ، فقال : عيالي أحوج إليها منك ، فغضب الملك وانصرف إلى أهله .
وكانت له امرأة من الأزارقة يشاورها في الأمر إذا نزل به ، فخرجت إليه فرأت في وجهه الغضب ، فقالت : أيّها الملك انّما يغتم ويأسف من لا يقدر على التّغيير ، فان كنت تكره أن تقتله بغير حجة ، فأنا أكفيك أمره وأصيّر أرضه بيدك بحجة لك فيها العذر عند أهل مملكتك ، فقال : ما هي ؟
قالت : أبعث أقواماً من أصحابي الأزارقة حتى ياتوك به ، فيشهدون لك عليه عندك أنّه قد برىء من دينكم ، فيجوز لك قتله وأخذ أرضه ، قال : فافعلي وكان أهلها يرون قتل
____________
(1) في ق 4 : سعيد ـ خ ل .
(2) في ق 2 : متعني .
--------------------------------------------------------------------------------
( 74 )
المؤمنين ، فأمرتهم بذلك ، فشهدوا عليه أنّه برىء من دين (1) الملك ، فقتله واستخلص أرضه .
فغضب الله تعالى للمؤمن فأوحى إلى إدريس عليه السلام أن ائت عبدي الجبار فقل له : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلماً حتى استخلصت أرضه ، فأحوجت (2) عياله من بعده وأجعتهم (3) ، أما وعزّتي لأنتقمنّ له منك في الآجل ، ولأسلبنّك ملكك في العاجل ، ولاُطعمنّ الكلاب ولحمك ، فقد غرّك حلمي ، فأتاه إدريس عليه السلام برسالة ربّه ، وهو في مجلسه وحوله أصحابه .
فقال الجبار : اخرج عنّي يا ادريس ، ثم أخبر امراته بما جاء به إدريس صلوات الله عليه ، فقال : لا تهولنّك رسالة إدريس أنا أرسل إليه من يقتله وأكفيك امره ، وكان لإدريس صلوات الله عليه أصحاب مؤمنون يأنسون به ويأنس بهم ، فأخبرهم يوحى الله ورسالته (4) إلى الجبّار ، فخافوا على إدريس منه .
ثم بعثت امرأة الجبار أربعين رجلاً من الزارقة ليقتلوا إدريس ، فأتوه فلم يجدوه في مجلسه ، فانصرفوا ورآهم أصحاب إدريس ، فأحسّوا بأنّهم يريدون (5) قتل إدريس عليه السّلام ، فتفرّقوا في طلبه وقالوا له : خذ حذرك يا إدريس ، فتنحّى عن القرية (6) من يومه ذلك ومعه نفر من أصحابه ، فلمّا كان في السّحر ناجى ربه ، فأوحى الله إليه أن تنحّ عنه وخلّني وإياه .
قال إدريس صلوات الله عليه : أسألك أن لا تمطر السّماء على أهل هذه القرية ، وان خرجت وجهدوا وجاعوا . قال الله تعالى : إنّي قد أعطيتك ما سألته ، فأخبر إدريس أصحابه بما سأل الله من حبس المطر عليهم وعنهم ، وقال : اخرجوا من هذه القرية إلى غيرها من القرى ، فتفرقوا وشاع الخبر بما سأل إدريس عليه السّلام ربّه .
____________
(1) في ق 1 وق 5 : عن دين .
(2) في ق 2 : فأخرجت .
(3) في ق 3 : وأحوجتهم . وفي ق 4 : وأفجعتهم .
(4) في ق 2 وق 4 وق 5 : ورسالاته .
(5) في ق 2 : أرادوا .
(6) في ق 3 : عن القوم .
--------------------------------------------------------------------------------
( 75 )
وتنحّى إدريس إلى كهف في جبل شاهق ، ووكّل الله تعالى ملكاً ياتيه بالطعام عند كلّ مساء ، وكان يصوم النهار ، وظهر في المدينة جبار آخر ، فلسب ملكه ـ أعني : الأول ـ (1) وقتله وأطعم الكلاب لحمه ولحم امرأته ، فمكثوا بعد إدريس عشرين سنة لم تمطر السماء عليهم مطرة ، فلما جهدوا ومشى بعضهم إلى بعض .
فقالوا : إنّ الذي نزل بنا مما ترون بسؤال إدريس عليه السلام ربّه ، وقد تنحّى عنّا ولا علم لنا بموضعه ، والله أرحم بنا منه ، فأجمعوا أمرهم على أن يتوبوا إلى الله تعالى ، فقاموا على الرّماد ، ولبسوا المسوح ، وحثّوا على رؤوسهم التّراب ، وعجّوا إلى الله بالتّوبة والاستغفار والبكاء والتّضرع إليه .
فأوحى الله تعالى إلى امللك الّذي يأتي إدريس عليه السلام بطعامه : أن أحبس طعامه عنه ، فجاع إدريس عليه السلام ليلة ، فلمّا كان في ليلة اليوم الثّاني لم يؤت بطعامه قلّ صبره وكذلك (2) اللّيلة الثّالثة ، فنادى يا ربّ حبست عنّي رزقي من قبل أن تقبض روحي .
فأوحى الله إليه اهبط من موضعك ، واطلب المعاش لنفسك ، فهبط إلى قرية فلمّا دخلها نظر إلى دخان بعض منازلها ، فأقبل نحوه فهجم على عجوز كبيرة وهي ترفق قرصين لها على مقلاة فقال : بيعي منّي (3) هذا الطعام ، فحلفت أنّها ما تملك شيئاً غيرهما (4) واحد لي وواحد لإبني ، فقال : إنّ ابنك صغير يكفيه نصف قرصة فيحيى به ويجزيني النّصف الآخر ، فأكلت المرأة قرصها ، وكسرت القرص الآخر بين إدريس وبين ابنها ، فلمّا رآى ابنها إدريس يأكل من قرصته اضطرب حتّى مات ، فقالت يا عبدالله : قتلت ابني جزعاً على قوته ، فقال لها إدريس عليه السلام : أحييه باذن الله ولا تجزعي .
ثم أخذ إدريس بعضد الصّبيّ وقال : أيتها الرّوح الخارجة عن هذا الغلام ارجعي إليه وإلى بدنه باذن الله تعالى ، أنا إدريس النبيّ ، فرجعت روح الغلام إليه ، فقالت أشهد أنك
____________
(1) في ق 3 : فسلب ملك الأول .
(2) في ق 1 وق 3 وق 4 وق5 : وكذا .
(3) في ق 2 وق 4 : من .
(4) في ق 2 : منه شيئاً غيرها .
--------------------------------------------------------------------------------
( 76 )
إدريس النّبيّ ، وخرجت ونادت في القرية بأعلى صوتها : إبشروا بالفرج قد دخل إدريس عليه السلام قريتكم .
ومضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبّار الأول وهي تلّ ، فاجتمع إليه الناس من أهل قريته (1) ، فقالوا مسّنا الجوع والجهد في هذه العشرين سنة ، فادع الله تعالى لنا أن يمطر علينا ، قال إدريس عليه السلام : لا أدعوا حتّى يأتيني (2) جبّاركم وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة ، فبلغ الجبار قوله ، فبعث إليه أربعين رجالً يأتوه بادريس ، فأتوه وعنفوا به ، فدعا عليهم فماتوا ، فبلغ الجبار الخبر ، فبعث إليه خمسمائة رجل ، فقالوا له : يا إدريس إنّ الملك بعثنا إليك لنذهب بك إليه ، فقال لهم إدريس عليه السلام : انظروا إلى مصارع أصحابكم قالوا : متنا بالجوع (3) فارحم وادع الله أن يمطر علينا فقال : حتّى يأتي الجبار .
ثم إنهم سألوا الجبّار أن يمضي معهم ، فأتوه وقفوا بين يديه خاضعين ، فقال إدريس عليه السلام : الآن ، فنعم . فسأل الله أن يمطر عليهم فاظلّتهم سحابة من السّماء ، فارعدت وأبرقت وهطلت عليهم (4) .
فصل ـ 1 ـ
59 ـ وعن ابن بابويه ، عن أبيه ، حدّثنا (5) محمد بن يحيى العطّار ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن محمد بن أورمة ، حدثنا محمد بن عثمان ، عن أبي جميلة ، عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر صلوات الله عليه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إنّ ملكاً من الملائكة كانت له منزلة ، فأهبط الله تعالى من السّماء إلى الأرض ، فأتى إدريس النبي عليه السلام ، فقال له : اشفع لي عند ربك ، قال : فصلى ثلالث ليال لا يفتر وصام
____________
(1) في ق 3 : القرية .
(2) في ق 2 : ياتني .
(3) في ق 3 : مسّنا الجوع .لا
(4) ذكر العلامة المجلسي نحوه مع اختلاف كثير في الألفاظ مع التّحفظ لروح القصّة عن اكمال الدّين في البحار ( 11 | 271 ـ 276 ) ، برقم : ( 2 ) ، واكتفى بذلك عن التنصيص على عبارات القصّة عن قصص الانبياء .
(5) في ق 2 وق 4 : قال : حدّثنا .
--------------------------------------------------------------------------------
( 77 )
أيّامها لا يفطر .
ثم طلب إلى الله تعالى في السّحر للملك ، فأذن له في الصّعود إلى السّماء ، فقال له الملك : أحبّ أن اكافيك ، فاطلب إليّ حاجة ، فقال : تريني ملك الموت لعلّي آنس به ، فانّه ليس يهنئني (1) مع ذكره شيء فبسط جناحيه .
ثم قال له : اركب (2) فصعد به ، فطلب ملك الموت في سماء الدّنيا ، فقيل له : إنّه قد صعد فاستقبله بين السماء الرابعة والخامسة ، فقال الملك الملك الموت : ما لي أراك قاطباً ؟ قال : أتعجّب أنّي كنت تحت ظلّ العرش حتّى اُومر (3) أن أقبض روح إدريس بين السّماء الرّابعة والخامسة ، فسمع إدريس ذلك ، فانتقض (4) من جناح الملك ، وقبض ملك الموت روحه مكانه ، وفي قوله تعالى : « وذاكر في الكتاب إدريس إنّه كان صديقاً نبيّاً ورفعناه مكاناً عليّاً » (5) (6) .
60 ـ وبإسناده عن ابن أورمة ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن محمّد بن مروان ، عن أبي صالح عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال : كان إدريس النّبيّ صلوات الله عليه يسيح النّهار ويصومه (7) ، ويبيت حيث ما جنّه اللّيل ، ويأتيه رزقه حيث ما أفطر ، وكان يصعد له من العمل الصّالح مثل ما يصعد لأهل الأرض كلّهم ، فسأل ملك الموت ربّه في زيارة ( إدريس عليه السلام وأن يسلّم عليه ، فأذن له فنزل وأتاه ، فقال : إنّي أريد أن أصحبك ، فأكون معك فصحبه ، وكانا يسيحان النّهار ويصومانه ، فإذا جنّهما اللّيل أتى إدريس فطره (9) فيأكل ، ويدعو ملك الموت إليه فيقول : لا حاجة لي فيه ، ثم يقومان
____________
(1) في ق 2 : يهنأ إليّ .
(2) في ق 1 : جناحيه ثم ركب .
(3) في البحار : حتى أمرت .
(4) في ق 1 وق 5 والبحار : فانتفض .
(5) سورة مريم : ( 56 ) .
(6) بحار الأنوار ( 11 | 277 ـ 278 ) ، برقم : ( 7 ) .
(7) في ق 2 وق4 : يسيح النّهار بصومه .
( في ق 4 : في زيارته .
(9) في ق 1 وق 3 : فطوره .
--------------------------------------------------------------------------------
( 78 )
يصلّيان وإدريس ويفتر وينام ، وملك الموت يصلّي ولا ينام ولا يفتر ، فمكثا بذلك أيّام .
ثم إنّهما مرّا بقطيع غنم وكرم قد أينع ، فقال ملك الموت : هل لك أن تأخذ من ذلك حملا ، أو من هذا عناقيد فتفطر عليه ؟ فقال : سبحان الله أدعوك إلى ما لي فتأبى ، فكيف تدعوني إلى مال الغير ؟
ثم قال إدريس عليه السلام : قد صحبتني وأحسنت فيما بيني وبينك من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت قال إدريس : لي إليك حاجة فقال : وما هي ؟ قال : تصعد بي إلى السّماء فاستأذن ملك الموت ربّه في ذلك ، فأذن له فحمله على جناحه فصعد به إلى السّماء .
ثم قال له إدريس عليه السلام : إنّ لي إليك حاجة أخرى قال : وما هي ؟ قال : بلغني من الموت شدة فأحبّ أن تذيقني (1) منه طرفاً فانظر هو كما بلغني ؟ فاستأذن ربّه له ، فأخذ بنفسه ساعة ثم خلّى عنه فقال له : كيف رأيت (2) ؟ قال : بلغني عنه شدة ، وأنّه لأشدّ ممّا بلغني (3) ولي إليك حاجة اُخرى تريني النّار فاستأذن ملك الموت صاحب النّار ، ففتح له ، فلما رآها إدريس عليه السلام سقط مغشيّاً عليه .
ثم قال له : لي إليك حاجة اُخرى تريني الجنّة ، فاستأذن ملك الموت خازن الجنّة فدخلها فلمّا نظر إليها قال : يا ملك الموت ما كنت لأخرج منها إنّ الله تعالى يقول : ( كلّ نفس ذائقة الموت ) وقد ذقته ويقول : ( وإن منكم إلا واردها ) وقد وردتها ويقول في الجنّة : ( وما هم بخارجين منها ) (4) .
61 ـ وبالاسناد المتقدّم عن وهب بن منبّه : أنّ إدريس عليه السلام كان رجلاً طويلاً ضخم البطن ، غظيم الصدر ، قليل الصّوت ، رفيق المنطق ، قريب الخطا إذا مشى ، وإنّما سمّي إدريس لكثرة ما يدرس من كلام الله تعالى ، وهو بين أظهر قومه يدعوهم إلى
____________
(1) في ق 3 : تذوقني .
(2) في ق 1 : رأيته .
(3) في ق 3 : وانّه اشدّ مما بلغني ، وفي ق 4 : وانّه لأشدّ ممّا يبلغني .
(4) بحار الأنوار ( 11 | 278 ـ 279 ) ، برقم : ( 7 ) ، الدّية : 35 سورة الأنبياء ، الآية : 71 سورة مريم ، والذيل بحسب منا يراد منه حصناً ، غير موجود في القرآن .
--------------------------------------------------------------------------------
( 79 )
عبادة الله ، فلا يزال يجيبه واحد بعد واحد ، حتّى صاروا سبعة وسبعين ، إلى ان صاروا سبعمائة ثم بلغوا ألفاً ، فاختار منهم سبعة ، فقال لهم : تعالو فليدع بعضنا وليؤمنّ بقيننا ، ثم رفعوا أيديهم إلى السّماء فنّبأه الله ودلّ (1) على عبادته ، فلم يزالوا يعبدون الله حتّى رفع الله تعالى إدريس عليه السلام إلى السّماء وانقرض من تابعه .
ثم اختلفوا حتى كان زمن نوح عليه السلام وأنزل الله على إدريس ثلاثين صحيفة وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وأوّل من خاط الثّياب ولبسها ، وكان من كان قبله يلبسون الجلود ، وكان كلّما خاط سبّح الله وهلّله وكبّره ووحّده ومجّده ، وكان يعسد إلى السّماء من عمله في كل يوم مثل أعمال أهل زمانه كلّهم .
قال : وكانت الملائكة في زمن إدريس صلوات الله عليه يصافحون النّاس ويسلّمون عليهم ويكلّمونهم ويجالسونهم ، وذلك لصلاح الزمان وأهله وفلم يزال النّاس على ذلك حتى كان (2) زمن نوح عليه الصّلاة والسلام وقومه ، ثم انقطع ذلك .
وكان من أمره مع ملك الموت ما كان حتى دخل الجنّة ، فقال له ربّه : إنّ إدريس إنّما حاجك فحجّك بوحي (3) وأنا الّذي هيّأت له تعجيل دخول الجنّة ، فإنّه كان ينصب نفسه وجسده يتعبهما لي ، فكان حقاً عليّ أن أعوّضه (4) من ذلك الرّاحة (5) والطمأنينة وأن ابوّئه بتواضعه لي وبصالح عبادني من الجنّة مقعداً ومكاناً عليّاً (6)